القمص يوحنا نصيف - الإسكندرية
تألّمنا جميعًا من الأحداث الصّعبة التي وقعت في قرية "بمها" التابعة لمركز العياط بالجيزة.. ونصلِّي إلى الله أن يعيننا دائمًا على حَمل الصليب، ويحوِّل كل الأمور للخير، ويحفظ أبناءه من كل شرّ.. ولكنَّنا نتساءل لماذا يصدر هذا العنف الإرهابي من إخوة لنا في الوطن، أحبّاء لقلوبنا؟ لماذا تمتلئ قلوبهم بشحنات خطيرة من الكراهية تجاه أناس مسالمين لم يفعلوا معهم أي شرّ..؟! الأمر يبدو غير طبيعي على الإطلاق..!!
مَن الذي يزرع في قلوبهم هذه البُغضة، التي هي البذور الحقيقيّة للعنف والإرهاب..؟!
أتصوَّر أن الإرهاب مثل النبات الذي يبدأ نموُّه بزرع بذرة صغيرة في تُربة مُناسِبة، وتعهُّدها بالريّ والمُخَصِّبات حتّى تتجذَّر في الأرض عمقًا، ثم تكبر وتترعرع وتصير ظاهرة للعيان.. ثم تبدأ في التضخُّم السرطاني الذي يشتبك مع بقيّة الأشجار المُثمِرة فيؤذيها إيذاءً بالغًا..
في رأيي أننا يجب أن ننتبه لبذور الإرهاب، أكثر من مظاهر الإرهاب.. ونقضي عليها قبل أن تهرب وتختفي مِنَّا في باطن تربتنا المصريّة، ثم نُفاجَأ بها أشجارًا سرطانيّة تقضي على الأخضر واليابس..
للأسف يبدو أنّه لا يزال يوجَد مَن يزرع هذه البذور حتى الآن، ولا يجد مَن يتصدّى له بكل الحزم والحسم.. وعلى سبيل المثال:
- كل مَن يدعو لاستبعاد ونفي أو إلغاء الآخَر، لسبب اختلاف الدين أو الجنس أو اللون.. هو إنسان يزرع بذور الإرهاب.
- كل مَن يدعو لتكفير وإباحة قتل ونهب أي إنسانٍ آمِن، خارج نطاق قوانين حقوق الإنسان والمواثيق الدوليّة.. هو إنسان يزرع بذور الإرهاب.
- كل مَن يدعو للكراهية وتشويه صورة الآخَر، دون وجه حقّ، لأسباب سياسيّة أو دينيّة أو عرقيّة.. هو إنسان يزرع بذور الإرهاب.
- كل مَن يدعو لاستخدام العُنف كوسيلة للتعامل، أو لفرض الرأي أو السيطرة.. هو إنسان يزرع بذور الإرهاب.
- كل مَن يسيء استخدام السُّلطة، بالتعالي والقمع والاستبداد والتفرقة بين الناس.. هو إنسان يزرع بذور الإرهاب.
- كل مَن يتعصَّب، ويحرِّض الناس على عدم قبول الآخَر المُختلِف، ورفض وجوده.. هو إنسان يزرع بذور الإرهاب...
إننا ربّما في مصر نحارب الإرهابيين الانتحاريين بكل قوتنا، ولكن على ما يبدو أننا لا ننتبه للمتطرّفين زارعي بذور الإرهاب، المنتشرين وسطنا في مواقع كثيرة، ولا نواجههم بشكل جدّيّ حتى الآن..!
وبمعنى آخَر، فإنّه لا يستطيع أحد أن ينكر المجهود الكبير الذي يقوم به المسئولون في أجهزة الأمن، لمنع أعمال العنف والإرهاب الموجّهة ضد السياحة مثلاً، وإحباط المخطّطات التي تودّ أن تنال من سلام بلادنا.. ولكن هل يُبذَل ولو نصف هذا المجهود لرصد وعقاب زارعي بذور الإرهاب، من المحرِّضين على الكراهية والعنف ضد الآخر الديني المُسالِم؟!
كلّنا نفهم أنّه دائمًا الوقاية خير من العلاج.. فإذا استطعنا أن نمنع زارعي بذور الإرهاب عن القيام بعملهم الخطير هذا بكل صرامةٍ وحسمٍ أعتقد أننا نكون بهذا قد أنجزنا إنجازًا عظيمًا، وقطعنا شوطًا كبيرًا في إجهاض مخطَّط الفتنة..
ولكن هل هذا يكفي..؟!
أعتقد أن علينا كأولاد الله عملاً آخَر أكثر أهمّيّة، أراه أساسيًّا وضروريًّا، لمواجهة العنف والإرهاب.. وهو زراعة الحُب باستمرار في قلوب مَن حولنا بالبشاشة والخدمة والعطاء.. فإنّ الأرض التي ترتوي دائمًا بالحُب، إذا وقعت عليها بذور الإرهاب فلن تستطيع هذه البذور السَّامة أن تنمو أبدًا، بل سوف تموت في الحال..!
والأمثلة كثيرة على ذلك.. فنحن نرى القيادات التي تربّت في مدارس مسيحيّة، أو تلامست منذ طفولتها مع المسيحيين تكون أكثر سماحةً وعدلاً وحُبًا، وبعيدة تمامًا عن الكراهية والعنف.. فمثلاً شيخ الأزهر الحالي الدكتور محمد سيّد طنطاوي كشف في إحدي المرّات أنّه أثناء طفولته في قرية من قرى سوهاج كان يذهب إلى الكنيسة في صباح كل يوم أحد ليحضر قربانتين لأبيه وأسرته بحسب طلب أبيه، ويأكلهما الجميع على سبيل البركة.. وكان أصدقاؤه من الأطفال المسيحيين كثيرين، وقد عاشوا في محبّة وسلام سنوات طويلة.. لقد زُرِعَت في قلبه بذور الحب، وتأصّلت.. وارتوت على مدى سنوات طويلة.. لذلك لم تنجح بذور الإرهاب التي سقطت على أرضه بكل تأكيد، أثناء مسيرة حياته، أن تجد لها مكانًا تثبت فيه، إذ أن المحبة الصادقة بينه وبين إخوته المسيحيين قد ملكت على قلبه تمامًا.. وها نحن نرى فيه الآن شيخًا وقورًا ودودًا وديعًا يزرع الحب الذي امتلأ به قلبه في كل مكان..
زراعة الحُب، تحتاج مِنّا أن نكون ملتصقين بالله مصدر الحُب الحقيقي، ومنفتحين باستمرار على ينابيع المحبّة الإلهية بالصلاة والتغذِّي بالكلمة الإلهيّة والتأمُّل في الصليب.. حتى نستطيع أن نعطي بسخاء من فائض المحبّة التي نتزوَّد بها في قلوبنا باستمرار..!
وزراعة الحُب أيضًا تحتاج أن نكون مؤمنين أن الحُب أقوى من البُغضة، مثلما النور هو أقوى من الظُّلمة.. وتحتاج أيضًا مِنّا إلى سياسة النفَس الطويل، فلا نتعجَّل الثمر، بل نزرع ونروي باستمرار ونصبر، والثمر سيأتي بكل تأكيد.. ويشجِّعنا قول الإنجيل: "لا نفشل في عمل الخير، لأننا سنحصد في وقته، إن كُنّا لا نكلّ" (غل6).
وهنا يظهر أيضًا أن الانعزال في التعامُل عن إخوتنا الأحباء المسلمين، هو تصرُّف خاطئ، ويكون له آثار خطيرة بعيدة المدى.. إذ كيف نزرع المحبّة ونحن متقوقعون ومُنحصرون في دوائرنا الضّيِّقة..؟!
خلاصة القول أنّ دورنا، ليس فقط أن ندين الإرهاب والعنف، بل يجب أولاً أن ندين أنفسنا على تقصيرنا في زراعة الحُب في القلوب.. كل إنسان في محيط دائرته.. لكي نصير بالفعل نورًا للعالم، وملحًا للأرض، ورائحة المسيح الزكيّة..!
م+ن+ق+و+ل