شهادة الذي أنكر:
هذا بطرس، الآن قدملأت المحبة قلبه، واشتعلت الحياة كلها بحب سيده، فقد كان شاهداً لآلام المسيح حسبقوله: «أنا الشيخ رفيقهم، والشاهد لآلام المسيح، وشريك المجد العتيد أن يُعلَن» (1بط 5: 1). بطرس أعطى وصية مثل سيده ولكنه شدَّد فيها على المحبة، لأنه رأى ضحيتهاوذاق ثمرتها: «طهِّروا نفوسكم في طاعة الحق بالروح للمحبة الأخوية العديمة الرياء،فأحبوا بعضكم بعضاً من قلب طاهر بشدة» (1بط 1: 22).هذا هو بطرس الذي لماأرادوا أن يصلبوه رفض أن يُصلَب كسيده، بل طلب أن يصلبوه مُنكَّساً!! لقد دخلتالمحبة قلبه، وانسكبت في أحشائه بعمل الروح القدس، فحوَّلت الإنكار إلى إصرار،والهروب إلى استشهاد!حبيب المحبة:
يوحنا الرسول حبيبالمحبة، عاش رسولاً للمحبة، يُنادي بها حتى آخر نسمة من حياته! كتب رسالة كاملة عنالمحبة، ولما أراد كتابة رسالة ثانية كتبها عن المحبة، وكتب رسالة ثالثة فكانت عنالمحبة أيضاً!ظل يعظ شعبه بأفسس عنالمحبة، حتى ملَّت الجماهير وطلبوا منه أن يقول لهم كلاماً جديداً، فقال لهم: ”وصيةجديدة أقولها لكم: أحبوا بعضكم“. وفي أواخر أيامه كانوا يحملونه إلى الكنيسة ليقولكلمة واحدة هي هي: ”أحبوا بعضكم“. أراد يوحنا أن يُكرِم المحبة، فلم يستطع أنيُكرمها بأكثر من أن يضعها بعد كلمة ”الله“: ”الله محبة“.مُضطهِد المحبة:
+ «شاول شاول،لماذا تضطهدني؟...مَن أنت ياسيد؟...أنا يسوع الذي أنتتضطهده» (أع 9: 5،4).ومن هذه اللحظة صارشاول ”بولس“ أسير المحبة. وبدل أن كان ينفث تهديداً وقتلاً لتلاميذ الرب، صار قلبهيذوب محبة ورِقَّة: «ماذا تفعلون؟ تبكون وتَكْسِرون قلبي، لأني مستعدٌّ ليس أنأُربط فقط، بل أن أموت أيضاً في أورشليم لأجل اسم الرب يسوع» (أع 21: 13).جعلته المحبة يحترقلأجل الآخرين: «مَن يضعف وأنا لا أضعف! مَن يعثُر وأنا لا ألتهب» (2كو 11: 29)! وقدامتزجت به المحبة من نحو اليهود الذين رفضوا المسيح إلى درجة جعلته يشتهي أن يكونمحروماً من المسيح وهؤلاء يؤمنون: «أودُّ لو أكون أنا نفسي محروماً من المسيح لأجلإخوتي أنسبائي حسب الجسد...» (رو 9: 3).ثم عاد يقول إنه لا شيءيفصله عن المسيح متحدِّياً العالم والشيطان وكل قوة في الأرض وفي السماء حتىالمستقبل المجهول: «مَن سيفصلنا عن محبة المسيح. أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أمعُري أم خطر أم سيف؟!... فإني متيقِّن أنه لا موت ولا حياة، ولا ملائكة ولا رؤساءولا قوات، ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة، ولا علو ولا عمق، ولا خليقة أخرى، تقدر أنتفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا» (رو 8: 35-39).نظر بولس إلى أعماق كلالناس، بل أنفس الناس، فوجدها ميتة إذ كانت عادمة من المحبة. نظر إلى الإيمان،فوجده لا شيء بدون المحبة. ورأى فلسفة الكلام إذاوصلت إلى حكمة الملائكة، فهي بدون المحبة جهالة. وكل نبوَّة ومعرفة الأسرار، هيبدون المحبة كذب ورياء. وكل تضحية حتى إذا بلغت التخلِّي عن جميع الأموال وتقديمالجسد للاحتراق، فهذه أيضاً بدون المحبة لا تنفع شيئاً (1كو 13: 1-3).هذا هو شاول لما ذاقالمحبة! أو هذه هي المحبة لما مسَّت شاول!شعلة من نار:
هذا أُغسطينوس الذيركض في ميدان الفساد والمروق عن إلهه حتى كلَّت قدماه! ولما فتح قلبه للنور، انسكبفيه حتى صار شعلة تنير لكل الأجيال!وإذ تطلَّعت عين الساهرقدوس إسرائيل، حنَّت أحشاؤه ونظر إليه والشيطان قائم عن يمينه ليُقاوم. فقال الربللشيطان: «لينتهرك الرب يا شيطان، لينتهرك الرب... أفليس هذه شعلة مُنتشلة منالنار» (زك 3: 2،1).وصار أُغسطينوس قيثارةالمحبة. بحث عن المحبة وجدَّ في إثرها حتى وجدها في أعماق الله. أخذ يتعقَّبها فيكل الميادين، فوجدها نافعة لكل شيء وبدونها ليس منفعة لشيء! ولما وثق من قوة المحبةوفاعليتها، قال حكمته المشهورة: ”حِبّ واصنع ما شئتَ“!وظل أُغسطينوس يعظ شعبهعن المحبة في عشر عظات متوالية، فلم يملَّ الشعب مما يسمع، ولا هو كَلَّ منالكلام!وقد استهل عظاته بهذاالكلام: [كل مَن سمع كلماتيووجدها عنده سيفرح بها! فتصير له كنقط الزيت على شعلة تزكيها وتُلهبها! فتنمو عندهوتثبت! وللبعض ستصير لهم هذه الكلمات كالنار لخشب مستعد للوقود! تلمسه فيشتعل،ويستكمل ما كان ينقصه. المحبة فرح لسامعيها، وسلام لِمَن يجدها]!
”جعلتُك أباً لجمهور من المُحبين“:
هذا بولا القديسالذي اضطرمت المحبة في قلبه، فضاق العالم عن أن يسعه، وخرج هائماً على وجهه يطلبوجه الله في البراري والقفار حتى وجده! فارتاحت نفسه: «مَن هذه الطالعة من البرية،مستندة على حبيبها» (نش 8: 5).عاش مع إلهه الذي أحبهكل أيام حياته متغرِّباً عن العالم حتى مات! فصحَّ فيه أيضاً قول صاحب نشيدالأنشاد: «أُحلِّفكُنَّ يا بنات أورشليم: أَلاَّ تيقظن ولا تُنبهن الحبيب حتى يشاء» (نش 8: 4). فلم يستيقظ بولا إلاَّ في العالم الآخر بين أحضان مَن أحبته نفسه، فعاشمئة واثنتي عشرة سنة لحبيبه ولحبيبه وحده، شاهداً بمحبته حتى الموت.وهذا النموذج الصغيرالهادئ، دفع من بعده الآلاف من البتوليين: منهم الشباب، ومنهم الشيوخ، ومنهمالأتقياء، ومنهم اللصوص والزواني، ومنهم أبناء الملوك، ومنهم بنات الملوك متخفياتفي زيِّ الرجال!وهؤلاء اتَّقدت فيهمنار المحبة، إذ سمعوا خبر المحبين الذين سبقوهم، فتحركت قلوبهم بكلمة أو بعظة أوبيقظة ضمير أو بصوت الحبيب يدعوهم إلى حياة أفضل! فباعوا كل ما عندهم مسرورين،وباعوا العالم راضين، ثم باعوا أنفسهم للحبيب وعاشوا كما عاش أبوهم الأول هائمين فيالبراري والقفار والجبال الموحشة وشقوق الأرض، مكروبين معتازين من أجل عِظَم محبتهمفي الملك المسيح!قالوا لأحدهم: ”إن أباكمات“. فقال: ”صَهْ! إن أبي لا يموت“. وقال أحدهم: ”أنا لا أخاف الله“. فقالوا له: ”إن هذا الكلام صعب يا أبانا“. ففسَّره لهم وقال: ”لأني أحبه «والمحبة... تطرحالخوف إلى خارج» (1يو 4: 18)“.هؤلاء عرفوا المحبة،فعرفوا الله. ولما ذاقوها انفتحت أذهانهم وعرفوا أنه هو الرب، فالتهبت قلوبهم فيهم،وأخذوا ينشدون للحيِّ من صباح حياتهم إلى المساء، وهم يُرتِّلون ترنيمة موسى عبدالله وترنيمة الخروف قائلين: «عظيمة وعجيبة هي أعمالك أيها الرب الإله القادر علىكل شيء، عادلة وحق هي طرقك يا ملك القديسين» (رؤ 15: 3).شهود من تحت المذبح:
+ «رأيت تحت المذبحنفوس الذين قُتلوا من أجل كلمة الله ومن أجل الشهادة التي كانت عندهم... فأُعطوا كلواحد ثياباً بـِيضاً وقيل لهم: أن يستريحوا زماناً يسيراً أيضاً، حتى يَكْمَلالعبيد رفقاؤهم وإخوتهم أيضاً العتيدون أن يُقتلوا مثلهم» (رؤ 6: 9-11).من كل شعب ومن كل لسانومن كل أُمة، كان للمحبة التي انسكبت في قلوب المؤمنين بالمسيح شهودٌ، كان مننصيبهم في الأرض بسبب هذا الحبيب، العذاب والقتل؛ أما نصيبهم في السماء، المكانالأول ”تحت المذبح“.ثلاثون ألفاًبالإسكندرية قُتلوا دفعةً واحدة! ليجلسوا هناك معاً ومع الذين سبقوهم، ينتظرونالعتيدين أن يُقتلوا مثلهم! كلَّت فيهم أيدي القاتلين وما فَتَر الحب الذي فيهمقَيْدَ شعرة. ارتفعت ألسنة النيران للتعذيب أمام عيونهم، فأطفأت رهبَتَها نيرانُالحب المتأجِّجة في قلوبهم. أُمهات أُخذت أطفالهن أمام عيونهن ليُذبحوا أمامهن، فلميبكين ولم يلطمن ولم يُغشَ عليهن من هول المنظر! بل كُنَّ يُشجِّعن أولادهن حتىيحتملوا، لينالوا محبة الشهادة وأكاليلها. إنها محبة، محبة ليستمن هذا الدهر، محبة ليست من لحم ودم! محبة انسكبت في قلوبهن بالروح القدس!!
هذه المحبة كانت تدفعالرجال والنساء، بل وعائلات بأجمعها أن يسيروا على أرجلهم من دمنهور إلىالإسكندرية، لماذا؟ هل ليتنزهواهناك؟ كلاَّ! هل ليشتروا مطالب ضرورية؟ كلاَّ! هل ليبيعوا ويشتروا ويستغنوا؟ كلاَّ! ولكن لماذا؟ اسمع: لماذا؟ ليستشهدوا!!!
ذهبوا بأنفسهم علىأرجلهم، لينالوا فخر الشهادة للمسيح ويرحلوا عن هذا العالم، وهم كانوا في الطريقيترنمون كأنهم ذاهبون إلى العيد!
هذه هي المحبة، وهؤلاءهم المحبون!
مَن ذا الذي لا يشتهيالمحبة؟
مَن ذا الذي لا يشتاقويتحرك قلبه ليكون للحبيب مُحبّاً ومحبوباً!
وإن اشتهيناها كيف نهدأقبل أن نملكها؟
وإن ملكناها فسوف نغلببها العالم والموت!
«المحبة قوية كالموت» (نش 8: 6).
[ يا إخوتي، ليس لكلماتوعظي القدرة أن تعمل لتوسيع قلوبكم،
فاطلبوا من الله لكيتحبوا بعضكم بعضاً، وهو يُعطيكم] - القديس أُغسطينوس. +
(1956)
منقول عن موقع مجلة مرقس